كونوا مع الناس كالشجرة
( سعة الصدر )
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على الهادي البشير القدوة الأسوة سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين ، تمم الله به مكارم الأخلاق وأدبه فأحسن تأديبه ، وبلغ من حن خلقه أن كان قرآنا يمشي على الأرض ، فاستحق أن يكون خير خلق الله أجمعين اللهم صلي عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله ، واتبع طريقه إلى يوم الدين .
أما بعد...
فإن أخلاق المرأ مرآة الإيمان ، وكلما ازداد إيمانه ارتقى خلقه ، وجمل طبعه وحسنت صفاته ، وصفت نفسه ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم فوق هذا المستوى من حسن الخلق ، وجدير بكل داعية على دربهم يسير وبهداهم يقتدي أن يتحلى بأخلاقهم ، ويتصف بصفاتهم ومن أهم تلك الصفات اللازمة له كداعية : سعة الصدر
فهي من صفات المرسلين
فسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان حليما عفيفا هينا لينا يقابل السيئة بالحسنة والإساءة بالإحسان ، انظر إليه وقد جاءه الوليد فقال له : يا بن أخي إنك منا حيث قد علمت من السلسلة في العشيرة والمكان في النسب وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل يا أبا الوليد أسمع قال : يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك . وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا ً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذ1لنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه ، حتى إذا فرغ عُتبه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع من قال : أقد أفرغت يا أبا الوليد قال : نعم قال : فاسمع مني قال : افعل فقال : " بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربياً لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ...." ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك .
فمع ما في هذا العرض من اتهام شنيع للنبي في قصده ونيته وعقله وأخلاقه ما قاطعه النبي صلى الله عليه وسلم وما جهل عليه ، بل تأكد أولا أنه انتهى من كلامه ثم ما زاد على أن عرض عليه دعوته وأسمعه القرآن .
وسيدنا هود عليه السلام اجتمع قومه في منتزه لهم ونصبوا أصنامهم ، فأقبل هود عليهم وقال : يا قوم اعبدوا الله فإن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع ولا تبر ولا تسمع ، فقال الرؤساء من قومه : " إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنك من الكاذبين " فبماذا أجابهم يا ترى بعد اتهامهم إياه السفاهة والكذب ؟؟؟!!!
هل قاطعهم ؟ هل ثار عليهم ؟ هل رد عليهم بمثل ما رموه ؟ هل نال منهم بأي لون ؟
كلا ، وإنما قال لهم : " يا قوم ليس بي سفاهة ولكني رسول من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين"
وصفة من صفات الصحابة - رضي الله عنهم –
فقد شتم رجل عبد الله ابن عباس فماذا قال له ؟
لقد قال له ابن عباس متعجبا : إنك تشتمني وفي ثلاث خصال :
أني آتي على الآية من كتاب الله عز وجل فأود أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلمه ، وأني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضي إليه ، وأني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به ومالي به من ساعية .
هل نملك أن نكون مثل ابن عباس مع من يشتمنا أو يتطاول علينا أو ينشر الشائعات حول جماعتنا وقادتنا ؟؟؟؟
وهذا رجل شتم أبا زر فقال له يا هذا لا تغرق في شتمنا ودع للصلح موضعا ، فإنا لا نكافيء من عصى الله فينا بأكثر من أن نطيع الله فيه . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إذا سمعت الكلمة تؤذيك فطأطيء لها حتى تتخطاك .
وهي تأسر الناس وتلين قلوبهم وتفتح مغاليقها
وما استعبد الأحرار كالعفو إن جنى جهول وفضل الصدر في سعة الصدر
ومن لطائف ذلك أن عبد الله بن الزبير كان له أرض قريبة لأرض معاوية فيها عبيد له من الزنوج ويعمرونها فدخلوا في أرض عبد الله فكتب إلى معاوية أما بعد فإنه يا معاوية إن لم تمنع عبيدك من أرضي و إلا كان لي ولك شأن فلما وقف معاوية على الكتاب دفعه إلى ابنه يزيد فلما قرأه قال له : ما ترى؟ قال : أرى أن تنفذ غليه جيشا أوله عنده وأخره عندك يأتوك برأسه ، قال يا بني عندي خير من ذلك علي بدواة وقرطاس وكتب : وقفت على كتابك يا ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وساءني والله ما ساءك والدنيا هينة عندي في جنب رضاك وقد كتبت علي نفسي عقدا بالأرض والعبيد لك وأشهدت علي فيه فلتضف الأرض إلى أرضك والعبيد إلى عبيدك والسلام ؟
فلما وقف عبد الله على كتاب معاوية كتب إليه : وقفت على كتاب أمير المؤمنين أطال اله بقاءه فلا عدم الرأي الذي أحله من قريش هذا المحل والسلام .
فلما وقف معاوية على كتاب عبد الله رماه إلى ابنه فلما قرأه أسفر وجهه فقال : يا بني إذا رميت بهذا الداء دواه هذا الدواء . أرأيت كيف يأسر الحلم القلب الغاضب المعاند ؟ وكيف أن الشر لا يطفأ بالشر ، والشدة لا تداوى بالشدة ؟؟!! .
ومن ذلك أيضا ما روي عن رجل من أهل الشام قال: دخلت المدينة فرأيت راكبا على بغلة لم أر أحسن وجها ولا سمتا ولا ثوبا ولا دابة منه ، فمال قلبي إليه ، فسألت عنه فقيل : هذا الحسن بن علي بن أبي طالب فامتلأ قلبي بغضا وحسدت عليا أن يكون له ابن مثله ، حيث كان يكره سيدن عليا رضي الله عنه ، قال : فصرت إليه فقلت له : أنت ابن علي ابن أبي طالب ؟ فقال : أنا ابن ابنه . قلت : فبك وفي أبيك كذا وكذا وقمت أسبهما ، فلما انقضى كلامي قال : أحسبك غريبا
قلت : أجل ، قال : فمل بنا ، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك ، أو إلى مال واسيناك ، أو إلى حاجة عاوناك قال : فانصرفت عنه وما علي الأرض أحد أحب إلي منه .
ويروى عن عاصم بن عمر بن الخطاب رحمه الله أن حارا له نازعه في أرض ادعيها من كلاهما ، فقال الرجل لعاصم : إن كنت رجلا فضع قدمك فيها ، فقال له عاصم : أوقد بلغ بك الغضب ما أرى ، إن كانت هذه الأرض لك فهي لك ، وإن كانت لي فهي لك ، فاستحيا منه الرجل فتركها وأبى عاصم أن يقبلها .
وسعة الصدر لا تقلل من هيبتك ولا من شأنك بل تزيدك عزة وعلوا وتزيد من أساء إليك ذلا وصغارا
لن يدرك المجد أقوام وإن كرموا حتى يذلوا – وإن عزوا – لأقوام
ويشتمـوا فتـرى الألـوان مسفرة لا ذل عجز ولكـن ذل أحــــــــلآم
ومما ورد في ذلك أن رجلا وقف على الأحنف بن قيس ليسبه ، وكان عمرو بن الأهتم جعل له ألف درهم على أن يسفه الأحنف ، وجعل لا يألو أن يسبه سباً يغضب ، و الأحنف مطرق صامت لا يكلمه . فلما رآه لا يكلمه أقبل الرجل يعض إبهامه ويقول : يا سوأتاه والله ما يمنعه من جوابي إلا هواني عليه .
وقال الشاعر :
ولقد أمر على اللئيم يسبني فأجوز ثم أقول لا يعنيني
وقال رجل لرجل سبه فلم يلتفت إليه : إياك أعني ، فقال له الرجل : وعنك أعرض .
وقال رجل لآخر : لو قلت كلمة واحدة لأسمعتك عشرا ، فقال له الآخر : ولكنك لو قلت عشرا لما أسمعتك واحدة .
وقال الأحنف : ما آذاني أحد إلا أخذت في أمره بإحدى ثلاث : إن كان فوقي عرفت له فضله ، وإن كان مثلي تفضلت عليه ، وإن كان دوني أكرمت نفسي عنه .
وشتمه رجل فأمسك عنه ، وأكثر الرجل إلى أن أراد الأحنف القيام للغداء ، فأقبل على الرجل فقال : يا هذا إن غداءنا قد حضر فانهض بنا إليه إن شئت فإنك منذ اليوم في جهد جهيد .
ووقعت دماء بين حيين من قريش ، فأقبل أبو سفيان ، فما بقي أحد واضع رأسه إلا يرفعه ، فقال : يا معشر قريش هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق ؟ قالوا : وهل شيء أفضل من الحق ؟ قال : نعم ، العفو فتهادن القوم واصطلحوا .
والحلم إذا لم ينفع مع من أساء فإنه يكسبك تعاطف الناس من حولك
قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجهول
وهو وسيلة لادخار الحسنات وتكفير الذنوب ودليل على الانشغال بالله
وقد فقه هذا المعنى عمر بن عبد العزيز حيث أسمعه رجل بعض ما يكره ، فما رد عليه وما أمر بتعذيره و كان يستطيع وإنما قال : لا عليك ، إنما أردت أيستفزني الشيطان بعزة السلطان ، فأنال منك اليوم ما تناله مني غدا ، انصرف إذا شئت .
واستطال رجل عل أبي معاوية الأسود فقال: أسغفر الله من الذنب الذي سلطت به علي
ووقف رجل على عامر الشعبي فلم يدع قبيحا إلا رماه به ، فقال له عامر : إن كنت صادقا فغفر الله لي ، وإن كنت كاذبا فغفر الله لك.
وقال محمود الوراق :
إني وهبت لظالمي ظلمي وغفرت زلته على علمي
ورأيـته أسـدى إلي يــدا لمـا أبــان بجهله حلــمي
فكأنما الإحسان كان لـــه وأنا المسيء إليه في الحكم
مازال يظلمني وأرحمه حتى بكيت لــه من الظـلم
فما أحوج الدعاة إلى الله لهذا الخلق في هذا الوقت الذي تهاجم فيه الدعوة من جميع التيارات وتحاك لها المؤامرات وتنصب لها الشباك ، فإذا لم يكن عندنا من الصبر والتأني والتحمل والجلد فلن نستطيع توصيل فكرتنا ، ولا إ قناع محبينا ، ولا احتواء المتحاملين علينا ، فلا يكفي تميز بضاعتنا ، وجودة منتجنا ، و أصالة منبتنا إذا لم نحسن عرضها، ونجهد لإظهار حقيقتها ، ولن يكون ذلك لنا إلا بصبر جميل لا أذى معه ، وثبات دائم لا كلا ولا ملل معه ، وبشاشة لازمة مع المعاون والمتحامل والمخادع ، وهدوء مستمر يعاوننا على غزو القلوب واستمالة المشاعر وكسب الأنصار وإضاعة الفرصة على الماكر المتربص .
والله من وراء القصد